Thursday 9 January 2014

رحم

أسير فيَّ غريبًا عني، حرًا مني، مما تعلق بي وسمى نفسه عالمي، فلا شأن لي بما هو لي. أتأملني كغريب أرتشفني بهدوء ورتابة كغلو القهوة، وبذج السيجارة. لا زوايا لي في هذا العالم، أنزلق بين الهواجس والهزائم والحيرات، كبقعة زيت طافية على سطح المكان واللغة. بدأت من داخلي تلك الحالة من "اللا مسمى"، اللاوصف اللالغة، حيث الأشياء والأشخاص والمعارك لها حضور شامل فيما وراء لغتها وعلاماتها إطلالة المدلول وتحرره من الدال و سطوته، يطل من خلالها الوجود الحر وكأنه بلا تاريخ أو معرفة أو ظل، فيصير قابلاً لأن يتعرى من كل ما تعلق به من مماحكات الإنسان. حضور غض، بري، متوحش ... والأهم أنه حر.هنا يكون الإيقاع هو السابق على الزمن، هو الإتساع والمدى هو اللامسمى، الحر المتجرد.الموسيقى إتساعي، حيز أفضي به إلى المزيد من المجهول فيَّ، إلى ذواتي المتجددة والمنطلقة كأفراس من ضوء، تحررت من أسماءها، وما علق بها مني، فلم أجد ما أعرفه فيَّ من تعدد مسمى، وجدتني في تحرري من كل إسم مررت به يوماً أو مر بي.فأسير فيَّ دون إسمي ورسمي، ثمة إتساع بين ذاتي وأول مواثيق الكون خارجي: حواسي، كل ميثاق لحاسة من طينتي يسير حراً في المدى، فيغدو عالمي أوسع، ومداركه فيَّ حرة من مهادناتها ، فأدرك الله بالماء ، و المسافات بالتنهيدة، و الأزرق برائحته، و الشوق بملمسه. ذاك الإتساع هو نصي الآخر لذاتي، لا أصبح فيه أنا سيد علاقاتي بي، هو نص إنتصار بهزيمتي، بتساميَّ في هذا الجسد.ألفتي هاهنا مختلفة، فهي ليست إرتشاحاً لمعرفة، وإلا وقعتُ ضحية الخوف من الأكيد، ألفتي
هاهنا هي وجه غربتي المطمئن لمجهوله. فليس ثمة "هنا" و"الآن"، هنا فلا تعريف لهما إلا بالإتساع و المدى.




هنا، رحم، إتساع ومدى تنعتق حواس ساكنه قبل أن يدرك ما يجمعهم من "جسد" يؤالف تناقضاتها، فلا يغدو كيانًا ذاتياً بقدر ما يتماهى مع فكرة الرحم، حيث أنه خروجٌ عن تقاليد الموت والحياة وإنهياراتهما الشحيحة، على هدير أفراس الحلم والسكنى الراكضة في إتساع هذا الحد.أسكن إليَّ في الهناك، أتأملني ببطء مطمئناً كالصمتبقلق المسافر وحريته،مسافر لا يملك من أمامه إلا ما بعثره من خلفه، فلا يخرج من مكانٍ كاملاًن ولا يلج مكاناً كاملاًلا تمام هناك، يسير خفيفاً على الأرض كملاك الموت.هنا، في الرحم، أتحرر من نزق الإنساني فيَّ لترويض البيولوجي فيَّ، ليعدو الأخير، ملقياً وشاح ترويض المكان باللغة، فالإنسان مكان. وأنا هنا خارج مماحكات الحياة والموت، هنا بيولوجيا مطلقة، لا تعريف لها، برغم إجتهاد القداسة والعلوم. فتلقي المعارف والتراتيل تعاويذها لتتأبد اللعبة وتُصلب


الرهانات على أبواب وكهوف، ومواسم حج ونفخ.





هنا "خارج" البشري المحكم، يسألني سؤال وجودي عن مفهوم البشر للبشر، سؤال وإن بدا يقينيًا، إلا أنه
 يخبيء تحت دثاره عدميته الفعل ورد الفعل، فالبشر إمتحان لخيبة اليقين، فكيف لي أن أجيب على تساؤلٍ معلق بين "جهة الله" و"استواء العرش على الماء" من الماء الرحمي، حيث خلق الكون من ست إيقاعات.
هنا يقف الإيقاع سداً يترك لانهمار المعنى خرس اللغة و انحباس بطشها، فلا تقف إلا الموسيقى عماداً لهذه السماء، لتسقط عن الآلهة أوراق التوت، وعن آدم معرفته، ليتقاسما بهاء السمسم الساخن في رغيف خبز، تحت إحدى جسور مدننا العويل.في الإيقاع الماء تأليب للهزيمة على خيالها، ونحن المهزومون، فتدلف إلى محراب الأخير عارية في خشوع، فتخلع عنها عتلاتها وعربات حربها وتروسها ومساطرها و شيوخها و علمائها و أحذيتها.فأمتطي خيول شوقي، إذ تصهل في المدى و الإيقاع، و أركض إلى هواجسي بجيوش من حواس، فما من إمرأة أحببتها إلا وسأحبها ثانية، وما من شهقة انتزعتني إلا وسأراودها ثانية، وما من دمعة بذرتها إلا وسأبذرها ثانية، وما من ثمالة تلبستني إلا وسأثملها ثانية، وما من قهقهة علقتها في نحر إحداهن المسروق من مدينة إلا وسأعيد تعليقها على ناحية نفس التنهيدة، وما من هزيمة أصابتني إلا وسأترك لها شباك وحدتي مفتوحاً على المزيد من غوايتي.



على موقع جدلية:http://www.jadaliyya.com/pages/index/13486/%D8%B1%D8%AD%D9%85




Friday 24 May 2013

خربشات على بسالة من رماد


بسالة الرماد:


لا تأويل افتراضي للمسافة، فتلك هذيانات الوسائط الزئبقية، إذ تفقد منطق الجسد/المكان. فالمسافة على قيد الوفاء لسجايا التأويل، لها منطق الشعر، و الشعر خيال لا افتراض، خيال وحشي، غض، كالحرية في الحيوان قبل مس من الإنسانية بظلم. خيال لا يروضه قياس/افتراض يتأبد بتيه بين وجه ومرآة.

حين نحب/ننتمي/نكون ، ننزع عن الجغرافيا و المسافات أبهتها بالأمكنة، والافتراض عدو الأمكنة، كلاهما يبطل الآخر، لتصدُق مقولة رهيف فياض، في زمن "العولمة/الافتراض": "لندافع عن الشعر في العمارة" كذلك عن الشعر في الآن.

فـ"اللامكان هو المكان وقد نأى في الروح عن تاريخه" (حسين البرغوثي) ، أي روح تلك التي يحملها "الافتراض"؟؟ و الشعر ميل الروح الحر. 

فإن كانت كلمة "مكان" من الممكن و التمكن، و لأن كل مكان بالـ"ممكن" منه ، فأي ممكن يمتليء به "الإفتراض"؟ أي ممكن يتآلف مع تهديد اللاواقع المتضمن في الإفتراض... أي شيزوفرينيا تلك التي نحملها لأمكنتنا بعدما إرتشحت منا؟!

حتى الخيط الذي يقف عليه المكان بمنتهى الألق، هو إفتراض لم يستو في ذاته، إنما إستند على واقع المتخيل خيطاً، ليستقيم اللانهائي، و يسكن المعنى...هكذا أقول لي على خيط.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الديجافو ، هو حنين و تقاطعات مكانية لا نعرِّفها بنا إلا كذباً و توقاً، و إلا ما أغرتنا بالمتعة منها؛ و المعرفة و المتعة لا يتبادلان أطراف الحديث، و تلك كلها ترتشح من بقعة مكانية ندركها مادياً..
بلفظ آخر هي أن نصاب بنوستالجيا الأمكنة، أي أن تمسنا نداءات بقايانا التي فقدناها من ثقب خفي في صرة أحلامنا وهوياتنا و نداءاتنا و حيراتنا و هواجسنا بل و حتى ذنوبنا المشتهاة. و هناك في تلك البقعة المكانية دون غيرها تآلفت، هي البقايا التي يصح عليها القول : نحن نتاج ما نفقد على طول الطريق، لا مانكسب و لا ما قد نصل إليه.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أإذا إنهار الأزرق المتسق كوناً حولنا، ألنا أن نعيد لخزائننا ما وهبناه باسم ذلك البذخ الأعمى من مواثيق صداقة و حب و عداء و غيرة و غيرهم من الصور الفوتوغرافية التي باتت غير معرّفة بكذب بهي..؟؟ أم ترانا بتنا أقرب لإفتراضنا على هذه الأرض، أكثر من واقعها فينا؟
حينها، في آذان الحي على الإنهيار، أسنعرفهم هؤلاء الذين كدسناهم معلقين في خزائن قوائمنا الإفتراضية، أم أن تلك صلاة لا جماعة فيها ولا إمام، محض عدم يتخفى بأرقام و افتراضات..فنعود لوحدتنا ، و التي باتت بعد الكذب أفدح مرارة..؟
سأعيد غسيل قوائمي الإفتراضية، و أرفع سورًا يقيني رياح اللاأكيد من البشر و أشباههم، فليس ثمة إفتراض له عهد ، يوم ينهار بنا الواقع. 
****************************************************
ما استجمعني أعلاه هو شرك من ضلالات حرة تغنيني عن توحيد الهداية القيد، شذرات مما كلمتني به أنفاسيقبل الغبار ، تعليقًا على الذات و الزمان و المكان و العالم الإفتراضي، أكتبها لأحميني بالاعتراف الفوضى من الهزيمة الزهو، إذ أرى أقران 
البشر باتوا أكثر تفاقمات متراتبة لما ليس من عالمنا إلا إفتراضاً...إذ لا أزال واقعاً مفرط في البدء.


Friday 28 September 2012

إدوارد سعيد : الثقافة وطن و مقاومة

عرَّف قاموس وبستر المقاومة بأنها فعل المقاومة أو المعارضة أو القدرة على أي منهما، ولأن الفعل –أي فعل- إنساني لا يتأتى واقعاً دون مسير قيمية متخيلة له تحدد فضاءه المؤدى و نتائجه المرغوبة، ويمثل تمظهراً أداتياً للقيمة المحددة، وكذلك لأن التعريف القيمي للوجود الإنساني (فرداً أو/و جمعاً) ينتجه الإدراك الثقافي للذات، تغدو المقاومة فعلا ثقافياً بإمتياز.

 وكما ذهب البعض من المنظرين –على غير قلة- إلى وصف السياسة "بأنها في جوهرها خطاب ثقافي، أي أنها مجموعة متكاملة من الرموز والمعاني التي نشترك في معرفتها جميعاً، يعاد تشكيلها وإعادة ترتيبها على الدوام فيما يعرف بالخطاب السياسي"، أي أن السياسة و المقاومة هما في النهاية بنيتين ثقافيتين متوازيتين لا تنفصلان -كما يدعي الخطاب النيوليبرالي المعولم-، ولا يمكن الإبقاء على أحداهما دون الأخرى، أو فرض أبجديات محددة من إحداهما.

 وهذا بالضبط ما يمكن من خلاله جعل المقاومة الثقافة قادرة على أن تكون خطاباً مضاداً، يقوم على تحويل المواجهة بين الواقع كما إصطنعه المستعمِر وقيام المستعمَر بدحض هذا الواقع و هدمه، وبالتالي فالمقاومة هي أحد أهم وسائل التغيير الثقافي و السياسي وإدراك الذات و الآخر و المحيط.

وهو بالضبط ما يجعل المقاوم مثقفاً ويفرض على الثقافة أن تصبح مقاومة في مواضع مقابلة السلطة والقهر والظلم والإستعمار، عن طريق تفكيك البنية الخطابية التي تنتجها تلك الثقافة للتمكن من تخيل الآخر، ومن ثم في مراحل سيطرتها عليه، تفرض عليه أدوات تخيله وإدراكه لذاته وبالتالي ينتهي الأمر به مجرد مرآة للمستعمر، لا يملك تحديد ذاته و تعريفها من دونه.




لا تنفصل المقاومة في إرث سعيد عن المثقف، بل تكاد تكون وجهه الأقدر على تحديد دوره إتجاه ذاته وعالمه ، ولنا في سعيد نفسه أعظم مثال، فهو الذي عاش بين فضائين متباينين في آن: (مثقف أكاديمي) و(منفي فلسطيني عن وطنه)، وكان لهذا البون بين الفضائين وإجتماعهما الحدي في تجربة سعيد العامل الأساس الذي شكل نص هويته ونص كتاباته. تلك النصوص التي لا يمكن تطبيق منطق زميله هومي بابا فيما أسماه "الثقافة الهجينة" ، أو "الفضاء الثالث" ، وهو ما لا ينطبق على مثقفنا إذ أنه لم ينفصل عن الفضائين البينيين معاً إنما دمجهما بما لا يخل بأي منهما معاً أو على حدة. إذ أن حالة الحوار بين هاذين الفضائين النظيرين والمتفارقين هي ما أكسبت هويته قوتها الدافعة وتأثيرها الفكري المنتج، لقد صاغ المنفى مفاهيم سعيد فيما يتعلق بالثقافة والفكر والأدب فكانت "نزعة الاحتفاء بعالم الحس" و"نزعة العالم الدنيوي" و"روح الهواية" هي ما يراه لزاماً فكرياً يمكنه من تحرير فكرة المكان الأدبي من قيد المنفى بالمنطق النصي في الخطاب، والتخلص من ثبوتية وعليائية الصلابة الأكاديمية:

"المثقف يمثل رسالة فردية، طاقة لا تنضب، قدرة تلين لتشتبك بوصفها صوتاً ملتزماً واضح المعالم وجدير بالاعتراف به، مع عدد كبير من القضايا التي تتصل في نهاية الأمر بالتنوير و التحرر و الحرية".

إن جل مايحتاجه المثقف ليمس القيمة الحرة في البنية الثقافية ويحررها –بحسب سعيد- نزعتان "نزعة الإحتفاء بعالم الحس" و"نزعة الإحتفاء بعالم الدنيا" ، وهي عناصر تجعل للنص كجزء من الخطاب مكانه في العالم المحسوس إذ يتمثله ويدركه الخطاب، يحس ويلمس ويوصف، ومنه ينطلق المثقف لتفكيك مناطق الحلول و التجاوز السلطوي فيه، ومن هنا كانت أهمية المقاومة الثقافية في التعامل مع الثقافة الرسمية كجزء من عوامل تشكيل الخطاب السياسي الرسمي، أي أن المثقف/المقاوم يجب أن يتحرك بين نبراسين:
1.الهواية، إذ تتيح له فضاءاً حراً لا هرمياً ، يبتعد به عن الصلابة.
2.الصدق في الإلتزام بالقضايا المتعلقة بتحرير القيم المطلقة، وبالتالي:

"الحقيقة الأساسية لدي، فيما أعتقد، هي أن المثقف فرد وهب ملكة تمثيل أو تجسيد رسالة أو رؤية أو فلسفة أو رأي أو موقف (من شيء ما)، مع الإفصاح عن ذلك لجمهور ما. وهذا دور له تأثيره القوي، ولا يمكن أن يؤديه المرء مالم يتوفر لديه إحساس بأنه شخص من شأنه أن يقوم علناً بإثارة أسئلة محرجة، و التصدي لجمود الفكر التقليدي والفكر اليقيني الجازم القائم على التسليم من غير تمحيص...، ومالم يكن من الصعب على الحكومات تحييدهم بضمهم إليها... ، ومالم يكن مبرر وجوده هو تمثيل ما دأبت الثقافة السائدة على نسيانه أو حجبه عن الأنظار، سواء كان أشخاصاً أو قضايا. بقوم المثقف بهذا كله مستندا إلى أساس من الكليات و المباديء العالمية التي تصدق على البشر أجمع  [ولا يمكن استحواذها باسم الحقيقة المطلقة: الكاتب“]


 



وبالتالي فعلى المثقف أن يقوم ببناء وعي نقدي يرفض ويفكك ويعري ويحلل الخطاب السلطوي وتمثيلاته، ليس هذا فحسب بل يتغلب على صعوبة التداول، بجعل الفكرة ممكنة ومتاحة ومدركة "الشروط الواجب إستيفائها لتكون المعرفة ممكنة" عن طريق الطعن في "سيادة المنهج التقليدي الثابت"، ومن ثم كانت عبقرية قراءة سعيد للخطاب الإستعماري من منطلقه الثقافي والمعرفي، فيما عرف بالقراءة الطباقية، وهي قراءة مستوحاة من مفهوم يعود إلى موسيقى كنسية غربية ظهرت في القرون الوسطى عرفت باسم لاتيني يعني "النغمة مقابل النغمة" أو "النغمة ضد النغمة"، وصارت تعرف اليوم باسم الطباق الموسيقي أو "تصاحب الألحان المتقابلة"، إذ تأثر سعيد بعازف البيانو جلين جولد.
بعبارات أخرى، الوعي بتراكبية النص تقودنا لقراءته قراءة طباقية، تفكك دواخل النص وما يتوارى خلفه، فندرك الألحان أو الأصوات والمعاني التي تصاحب اللحن/المعنى/الصوت الإستعماري السلطوي، ويمكن بها كشف متضادات العلاقة وتذرر و طمس أو حتى إستحواذ القيمة حينها.
والقراءة الطباقية تنتج من جمع بين الفكرة الدالة المتكررة (الموتيف) والصفة الفارقة (الإختلاف)، وهما الأساس لأقامة علاقة طباقية بين السرد الاستعماري ومنظور ما بعد الاستعمار. وبهذا ينشأ سرد يحتوي على نقطة دفينة في مقابل كل نقطة معلقة (سائد/متنحي أو عليا/دنيا)، ونتمكن من النزول من سطح النص إلى أعماقه بحثا عن وجود الآخر الواقع تحت سلطة خطاب و تخيل الأاقوى، وبالتالي تفشي النزعة الإستبعادية النافية في الثقافة المعتمدة، بل وأكثر من ذلك يكشف و يستشرف مواضع مرآوية المستعمَر والمستعمر في أدب المابعد كولونيالي، والخلط التحرري القائم على استعارة منطق الأقوى لتعريف الذات.
لذا فمن الضرورة أن يكتسب الوعي النقدي فاعلية ذاتية بانفصاله عن الثقافة السائدة وحلوله في موضع مناوئ مستقل يمكنه من الشروع في "اكتشاف وتعليل مغزى العبارات التي تتألف منها النصوص" تلك النصوص التي عادة ما تكون حجر الأساس في تخيل و إدراك الآخر.
فمن معالم المثقف المقاوم لدى سعيد قدرته على الإطاحة بثبوتية وصلابه وتعالي الثقافة عن العالم الآني المحسوس، فالمفهوم السعيدي المحتفي بعالم الدنيا يطعن على السلطة المقيدة المعنية بالجزئي الصلب في الخطاب الأكاديمي ببنية الهيراركية المتعالية، ممهدا الطريق إلى فكرة الاحتفاء بعالم الحس (وفي أدبيات أخرى : القراءة العلمانية) حيث لا يكون النص الأدبي مجرد حلقة جديدة تحل في موقع محدد ومتعالي عن الواقع، إنما هو مرتبط بعالم المادة والأشياء بما يتضمنه من روابط ثقافية و سياسية و إجتماعية وسلطوية بين محتويات مصوصه. وبذلك يكشف سعيد عن علاقات النسب التي يكون فيها النص طرفاً، ويعري كذلك علاقات الإنتساب أو الممالأة التي يدخل النص نفسه فيها.
وبهذا يتمكن المثقف من الرد النصوصي على نص السلطة الاستعمارية المعتمد حيث أن "الخنوع الذليل للسلطة في عالم اليوم هو واحد من أفدح الأخطار التي تحيق بالحياة الفكرية التي يراد لها أن تكون مفعمة بالنشاط ومراعية للمثل الأخلاقية العليا" وذلك عن طريق الوعي المجتمعي وعقل نقدي مقابل السلطة ومؤسساتها المعرفية و الخطابية وبالتالي السياسية.
فالمثقف/المقاوم ينبغي أن يمثل "... التحرر و التنوير، ولكن ليس بوصفهما مفهومين تجريديين أو إلهين يتعين على البشر عبادتهما على الرغم من إنقطاع صلتهما بالحياة و البون الشاسع الذي يفصلهما عن البشر. أما تمثيلات المثقف – الأفكار التي يوم بتمثيلها وكيفية تقديمه هذه التمثيلات لجمهور ما- فإنها ترتبط بتجارب أو خبرات تقع على نحو مستمر في داخل مجتمع ما، ويجب أن تظل جزءاً لا يتجزأ من هذه الخبرات: خبرات الفقراء، المحرومين من حقوقهم، من لا صوت لهم، المحرومين من التمثيل ، من لا حول لهم ولا قوة".
النص في نظر إدوارد سعيد منتج ثقافي له تفاصيله المكانية الملموسة و المحسوسة ، فهو ليس بناءاً خاملاً بل له تاريخه الإجتماعي و السياسي والثقافي أي أن له وجوده المادي "المتشابك مع ظروف وزمان ومكان ومجتمع" وهو ما ينتج عنه "قدر من الاتصال المباشر بين المؤلفين ووسيلة التواصل اللغوي حين يكون من موجودات العالم"، وعلى عكس ما ذهب إليه البنيوين و الواقعيون، يرى سعيد أن النص هو جزء من العالم الذي تشكل منه أو أستنبط منه. وعندما يتورط النص في علاقة ممالأة مع التاريخ والثقافة والمجتمع فإنه يتخلص حتماً من قيد ما يسمى بالأدب الأوروبي المعتمد ويرجع إلى نسيج ثقافته، وبالتالي فإن "إعادة إنشاء شبكات الممالأة تؤدي لإبراز الخيوط التي تربط النص بالمجتمع والمؤلف والثقافة أي تحويل النص إلى شيء محسوس"، وتعزيز مادية النص هو مفتاح باب قراءة الأدب الإنجليزي مثلاً بشكل طباقي للتيقن من مدى مشاركة تلك النصوص في تنفيذ مشروع سياسي متسع وكاسح، عن طريق إعمال الخيال الخطابي المدرك للآخر وعلاقة الذات منه ، وبالتالي قراءة هوياتية: هوية المجتمعات الخاضعة للإستعمار ، وهوية ثقافة الإمبراطورية الاستعمارية، وهو ما يمكن تطبيقه على الحالة الفلسطينية، وتمثلات الفلسطيني بعد أوسلو مثلاً.




فالقراءة الطباقية مثلا تسلط الضوء على المساحات الفارغة في المكان الآخروي في الخطاب الإمبريالي فانتيجا لجين أوستن تصف إستغلال المساحات الواسعة من سطح الكرة الأرضية بإضفاء حضور على تلك الغيابات أو "الفضاءات النائية، التي قد يكون بعضها غير معروف"، وعلى هذا فتلك ليست مجرد إشارة إلى "روح المغامرة التجارية التي تدفع المرء لحيازة أراض وبسط سيطرته عليها فيما وراء البحار من أجل تحويلها إلى مصدر للثروة في الإقليم الذي جاء منه. كما أنها ليست واحدة من الإشارات الكثيرة التي تشهد على وجود حس تاريخي ينضج بسلوكيات قويمة وأخلاق كريمة بل يضم كذلك صراعات بين أفكار، ومنازعات مع فرنسا في عهد نابليون ومعرفة بتغيرات إقتصادية واجتماعية مزلزلة كانت تقع في حقبة ثورية من حقب تاريخ العالم".
ومن النماذج الأخرى للقراءة الطباقية التي ذكرها سعيد في كتابه "الثقافة و الإمبريالية" ، أوبرا “عايدة” لفيردي والتي يكاد يكون فيها الإرتباط تاماً بين الأعراف الثقافية والأعراف السياسية ، فأوبرا “عايدة” تثير أسئلة مركبة عن "علاقتها باللحظة التاريخية والثقافية الغربية التي كتبت فيها" ، وأسئلة كذلك عن تفردها و"موضوعها وإطارها الزماني والمكاني وفخامتها ومؤثراتها البصرية والصوتية التي تلهب العواطف على نحو غريب، وموسيقاها المتطورة إلى حد الإفراط والوضع الأسري المقيد الذي تصوره، وإختلافها عن بقية نماذج فيردي"، فسعيد يطالب بقراءة أوبرا “عايدة” قراءة طباقية لأنها تجسد "سلطان النسخة الأوروبية من تاريخ مصر في لحظة من لحظات تاريخها في القرن العشرين، وهو تاريخ يجعل من القاهرة في السنوات 1869 إلى 1871 موقعاً ملائماً إلى حد غير إعتيادي" إذ أن القراءة الطباقية لتلك الأوبرا تمكننا من الكشف عن "بنية الإحالة و الاتجاهات العقلية في النص وشبكة علاقات المملأة والروابط والقرارات وعلاقات التعاون والتواطؤ، وكلها يمكن قراءتها بوصفها السبب في مجموعة من الملامح المفزعة التي جاء نص الأوبرا البصري والموسيقي متسماً بها" فقصة أوبرا “عايدة” التي تدور حول بطل مصري يقهر الإثيوبيين ولكنه يتهم بالخيانة ويحكم عليه بالإعدام، تستحضر في الذهن التنافس بين القوى الامبريالية في الشرق الأوسط. لقد شجعت بريطانيا تحركات الخديوي إسماعيل في شرق أفريقيا، إذ رأتها الوسيلة المناسبة لعرقلة المشروعين الإيطالي والفرنسي في الصومال وإثيوبيا. ولذا فمن وجهة نظر فرنسية نجد أن أوبرا عايدة "تصور الأخطار التي يمكن أن تترتب على نجاح الخطة المصرية في إثيوبيا"، لذا فهي تعري وتوضح مدى ممالأتها للخطاب الإستعماري و تجردها عن العالم الذي خلقها.
ولنا في رواية ألبير كامو "الغريب" مثال آخر ، إذ يرى سعيد أنها "ترتبط من وجهة نظر تاريخية بعلاقة ممالأة أو تبعية للمشروع الإستعماري الفرنسي نفسه.. وكذلك معارضة استقلال الجزائر معارضة سافرة". إذ ينبغي النظر إلى الرواية "بوصفها عنصراً من العناصر التي تندرج في جغرافية الجزائر كما شكلتها فرنسا بطريقة منهجية منظمة".
إن المقاومة عملية ذات شقين:
1.إسترداد الأرض المغتصبة .
2.المقاومة الأيديولوجية، والذي يتكون من "إصرار على رؤية تاريخ المجتمع كاملاً متسقاً غير منقوص ثم البحث عن نهج بديل في رؤية التاريخ البشري... يقوم على إزالة الحواجز بين الثقافات وأخيراً الدخول إلى الخطاب الأوروبي والغربي من أجل الاختلاط به، والعمل على إحداث تحولات فيه ودفعه إلى الاعتراف بالتاريخ المهمش أو المقموع أو المنسي".
أي أن المقاومة الثقافية هي عمل مزدوج ، ليس تحرراً ذاتياً فقط، إنما هو أيضاً إدراك للهوية الذاتية، ومحددات القيمة فيها، وهنا لا بد لنا أن نشير لتأثر إدوارد سعيد بفرانز فانون إذ يقول:
"إن الجهد الذي يبذله البشر من أجل اقتناص الذات والتدقيق في عناصرها ، وكذلك التوتر الدائم الذي تسببه لهم حريتهم، هما العاملان اللذان من خلالهما يتمكنون من خلق الظروف المثالية في عالم إنساني".
ولعل تلك السطور تعري في ذاتنا العربية عموماً ، والفلسطينية خصوصاً الحاجة الملحة والضرورية والحيوية لنرى تمثلاتنا الثقافية الذاتية في خطابنا العربي و الفلسطيني، وإلى أي درجة وصلت من المرآوية الصهيونية باعتبارها علاقة (مستعمِر و مشتعمَر)، ينطبق عليها ما إنطبق على غيرها، وإلى أين ستذهب بنا تلك السياسيات الثقافية الغير مقاومة، إلى أي حد سردنا هو علاقة ممالأة فاضحة للإسرائيلي؟

________________________________________________
رابط المقال على موقع جدلية:
http://www.jadaliyya.com/pages/index/7527/%D8%A5%D8%AF%D9%88%D8%A7%D8%B1%D8%AF-%D8%B3%D8%B9%D9%8A%D8%AF_%D8%A7%D9%84%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D8%B7%D9%86-%D9%88%D9%85%D9%82%D8%A7%D9%88%D9%85%D8%A9


Wednesday 22 August 2012

"من أنا؟"

للمرة الأولى أراني لا أقع على غربتي أمام السؤال: من أنت؟ ، كما إعتدت الوقوع عالي الصدى و النبر في آخر حياتيّن مررت بهما....
لا أعلم لماذا تزداد الهاوية إرتفاعا في حضورك..
وتزداد السماء مجازاً نازفاً جديداً يتجسد في أبسط إدراكاتنا للحياة و اللون...هناك في العش العالي الوحيد.... وردة... نسمة... بسمة بين الزحام... إصبع... لحن سعيد شارد بين أحزاننا... خربشات قلم رصاص يصر على الوقوف بين ضمة وشدة في إسمك... سُكنى... نافذة.... قطعة شوكولاته....
إنزعيني عن كاحليك لأعيد للسماء إتساقها فوق أسماء تسعة و تسعون.. خلت منكِ بكِ....
ياإلهي ما أجمل مخملك مجازاً مجازاً.... حقيقة لا يتسع لها خيالنا ، وخيال لا يقل واقعية عن حقائقنا المبذورة فينا وحولنا..


Tuesday 7 August 2012

في العلاقة مع الرصاصة (1)


ربما ذكرني أزيز الرصاصة النزق بمنفاي...
حين أطرقت، و أفضى بي إلى وطن طريد...
كل منفى صحوة ، فإكتملي
ياجهاتي بكمال نزق،
واكتمل يارعب، هل باركت أنقاضي برعبٍ ثمل؟
ربما. لا. ياحديدا
مترفا كاللهو لاه بالحديد
بارك الفلز الذي يصحو على فلز نشيدي.
ياحديدا مر بالبال فأصغى البرعم الصلد لتاريخي إليه
وتدانى ظلي اللاهي لكي يلقي عليه
حفنة الريح التي ألهمت الحي بلاغات الشهداء.
كأن من ثمري هذا : رنين صاعد في الجسد...أقدار...حمى حجر...لابأس، ماذا بعد يا حديد؟
وليمر الفضاء الحيران في ظلك المحترق...المهتريء..
وليخلع المرئي مهاميز عصيانه وعباءة دجاليه...
سيظل مفتوحا بابي ، سيظل الكلام مفتوحا لدخولكم ، بالأحذية ذاتها ، و اللهيب ذاته ، وبالسيوف التي تقاسمتم بها خلافة الموت...
سيظل الكل مفتوحا ، الكل الذي يمسح الرماد ، بريش من دمه ، عن الحرف وخوذة البارحة.


هكذا ، إذاً روض المشهد جسارتي،
وروض الحرف المدى ، سفحكم الحديدي المكتوم..
فليمت لأجلكم من تريدون أن يموت،
ولأمت ، أيضا لأكتب ما تبقى


"تودد" أو "الثورة التي لا تؤنث لا يعول عليها" (3): التأنيث في الشعر ثورة



إنَّ القصيدة رَمْيَةُ نَرْدٍ
على رُقْعَةٍ من ظلامْ
تشعُّ ، وقد لا تشعُّ
فيهوي الكلامْ
كريش على الرملِ /
لا دَوْرَ لي في القصيدة
غيرُ امتثالي لإيقاعها :
حركاتِ الأحاسيس حسّاً يعدِّل حساً
وحَدْساً يُنَزِّلُ معنى
وغيبوبة في صدى الكلمات
وصورة نفسي التي انتقلت
إلى غيرها « أَنايَ » من
واعتمادي على نَفَسِي
وحنيني إلى النبعِ /
لا دور لي في القصيدة إلاَّ
إذا انقطع الوحيُ.
م.درويش – لاعب النرد


إذا كانت "أعظم خيانة يرتكبها الكاتب أن يصوغ الحقيقة الصعبة في عبارة رخيصة" فـ"الشاعر مأخوذ بكل علم ... لاتساع الشعر و احتماله كل ماحمل ... وإذا كان الشاعر (مطبوعًا) لا علم له ولا رواية ضل و اهتدى من حيث لا يعلم، وربما طلب المعنى فلم يصل إليه وهو ماثل بين يديه لضعف آلته".

فإذا كانت "الرؤيا" و "الكشف"  و "الحفر" في النفس و الأشياء  من ملامح الشعر الحديث ، بعد تجاوزه –دون إفراط- الإطراب و الغنائية بمفهومهما الحسي، أدركنا مدى الحاجة الشعرية للاساليب الرمزية والأخيلة الشهرية المنطلقة الغرائبية والترميز المكثف و الحر و التخييل في البنية اللغوية و الشعرية ، وهو نتيجة لـ"لغة التخيل" الأنثوية الجذر أكثر مما تفعله "لغة الإخبار" الذكورية الجذر، فلغة التخيل أقرب ما تكون للغة "الكشف" بالمصطلح الصوفي ، تلك التي تحمل معاناة البحث والتساؤل في الآفاق الغريبة حتى عليها و فيها، لغة تساءل الذات و الموضوع معاً، تحفر في الواقع من أجل قراءة تأملية تجاوز موصوفاته المدركة أولياً، فتدرك علاقاته المباشرة و غير المباشرة ، في تأثير "مرآوي" لنزوع الوجدان الصوفي في حالة "الإستجلاء" – إستجلاء الكون- إلى "الفناء".

وهو تماما معناه مالارميه بقوله للمصور ديجا: "عزيزي ديجا، إننا لا نصنع من الأفكار شعرا ، بل من الكلمات". فقد كان ديجا يجد صعوبة في كتابة الشعر على هامش فن التصوير (وللثنائية هاهنا دلالتها) الذي يحترفه، فوجه سؤال إلى مالارميه : "إن حرفتكم حرفة مضنية. أنا لا أستطيع أن أقول ما أريد ولو كنت مليئاً بالأفكار".

وبالتالي فالفضاء الجمالي الذي تنتجه "اللغة التخيلية" ، ليس من باب الثمالة الجمالية شعرياً أو التجميل اللفظي و التخيلي فقط ، فذلك المنحى هو انعكاس لـ"وشاكة إنمحاء الفطرية في عالمنا المعاصر بسبب ماديته وآليته وتعقيداته"، فتلك القيم السائدة في عالمنا هي قيم مادية صلبة لايمكن مقاربتها إلا بلغة إخبارية كونها قيم كمية، وليست قيما روحية متجاوزة تجب مقاربتها بلغة تخيلية، لذا أصبح التخيل و المكاشفة اللغوية تعويضاً جمالياً قيمياً وروحياً.

حيث يفسر السياب هذا التوجه الشعري الحديث للتخييل بتوظيف عديد الأدوات التخيلية ، بأن القيم السائدة في عصرنا هي قيم ليست شعرية، و أن الكلمة العليا فيها ليست للروح بل للمادة، لذا "فالتعبير الماشر عن اللاشعر لن يكون شعراً".

فالشعر –وكذا بقية الفنون- الذي يعتمد التخييل في اللغة ، يؤسس لدرامية تخفف الغنائية الشعرية ، وللترميز الذي يمنع سقوط النص في المباشرية و الوضوح الساذجين ، فيما يعد انعكاسا فكرياً لعصور الانحطاط الفكري و التأملي.

وبالعودة لفكرة "الفناء" ، لابد لنا أن نتذكر المقولة الصوفية :"تمام الشيء مبتدأ نقصانه"، فيبدأ "التكون" حينها مع تمام –أو قرب تمام- "الفناء" ، أوليست تلك خاصية الأنثى بامتياز؟ فهي التي تمنح الحياة من الموت ، ويتكون الخلق فيها من صميم الفناء أو على شفيره ، وتتجدد الحياة من مواثيق الفناء في الجسد الأنثوي.
ولكن كيف لذلك أن يكون شعراً ، وقد إنتهى عصر "ربة الشعر" فكان "شيطان الشعر" ؟ أوليس "الشعر جمل بازل" والجمل البازل هو الفحل المكتمل، فكان "إذا صاحت الدجاجة صياح الديك فإذبحوها" كما قال الفرزدق في إمرأة قالت شعراً.








لعل تلك الحاجة إلى تأنيث الشعر ملحة في عصرنا، لإكمال التحرر الشعري و اللغوي من السيطرة الذكورية عليه كنسق حي ومؤثر ثقافياً وحضارياً، لم نر فيه بعد الخنساء شاعرة لمدة تربو على الـخمسة عشر قرناً من الزمان ، و إن كانت الخنساء محض انتصار ذكوري شعري –كما أسلفنا سابقاً- ، بكت باستخدام الشعر الظل الذكوري الذي أبت الثقافة الذكورية الفحولية البدوية أن تخرجها منه إلا بموت صاحبه صخر. فالشعر "ساحة تستوعب مايطرح من المسائل الفلسفية وقضايا اللاهوت وعلم الإجتماع والأنثروبولوجيا فضلاً عن السياسة والأسطورة و التاريخ" وبالتالي فهو – الشعر- "خطاب معرفي حقيقي". باعتبار ضرورة الربط بين الشعر و الفكر و الفلسفة، بما لا يمكن فضه، لأن ذلك "لايناقض العامل الحضاري وحسب ، إنما يناقض إلى ذلك معنى التجربة الشعرية" والتجربة الشعرية هي في ذاتها متجاوزة لذات الشاعر/الرائي إلى نبوءة تتعالى عن شخصه إلى كامل شرطه ومحيطه الحضاري مكوناً الذات و الآخر أياً كان الآخر : محيط ، كون، إله...و أنثى.

إن في ذلك التحدي الكبير حضارياً وتاريخياً فيما يتعلق بالشعر و لغته ، هو ما جعل الثقافة بنسقها الذكوري تكشف عن أنيابها إزاء أهم مسّ أنثوي تحرري ثوري شعرياً، جعل من الكوليرا التي أصابت مصر عام 1947 ، أقل كثيرا من تلك "الكوليرا" التي أصابت عامود الشعر الفحولي على يد نازك الملائكة في متن فعلتها الشعرية التي كانت تحت نفس الغسم في نفس العام.
فقد حرضت "الملائكة" في شعرها على الثورة ، و "الشعر محض ثورة"، فأججت في بحور الشعر عاصفتها و ثورتها ، و أغرت بحوراً ثمانية من بحور الشعر بالإنقلاب و الإنضمام تحت رايتها المؤنثة ، لتروض في الشعر "شيطانه الذكر"، ليخرج التأنيث من عتمة الحكي إلى نور الكتابة، ولينكسر عامود الشعر الفحولي ، ليمسي الشعر "حرية" وليس فقط "حراً".
تلك البحور الثمانية التي استجابت لنداء "الملائكة" هي "الرجز" و "الكامل" و"الرمل" و " المتقارب" و "المتدارك" و الهزج" و إنضم إليهم "السريع" و "الوافر"، طاعنين بالاقحوان منابع الأشكال حيث الحضور الأصم الثابت ..الذكر.
كيف للغة الشعرية أن يكتمل صلصالها التخيلي / الكشفي من دون تلك البحور الثمانية التي تحمل صفات الجسد المؤنث ، تلك الصفات التي تشترط الحياة ومنحها من حدود "الفناء" و "النهاية"، فكل تلك البحور مرآة للجسد المؤنث ، مرنة تزداد وتنقص حسب شروط الحياة المتوالدة أقحواناً في متونها و أرحامها، بإنبثاق جسد من جسد ومعنى من معنى وصوت من صوت ، ثم يعود ليتقلص فيلعو فيه "النبر" و "النزف" دونما أن يفقد حياته. إن تلك البحور الثمانية التي إنضمت لحملة "الملائكة" وثورتها على سلطة العرش/الذكر و كأي ثورة لابد لها أن تنطلق شرارتها من الشعب ، فكانت تلك البحور "الأكثر شعبية وتواضعا وقرباً للناس ومنهم وإليهم ، وفيها البساطة و الليونة و الخفة".
أما البحور الأخرى ، فهي بحور الفحول ، بها من سمات الفحولة جهوريتها وصلابتها ، واستوثاق تقاسيم الذكورة الجسدية واضح فيها ، فهي لا تقبل التمدد ولا التقلص ، فلغتها الشعرية ذكر فحل ، "وكونه عموداً صلباً راسخاً لا ينزف ولاينتفخ".





 "مزجت بين النار و الثلوج –

لن تفهم النيران غاباتي ولا الثلوج

وسوف أبقى غامضاً أليفاً

أسكن في الأزهار و الحجاره

أغيب

أستقصي

أرى

أموج

كالضوء بين السحر و الإشارة"

أدونيس – "الإشارة" من ديوانه "كتاب التحولات و الهجرة في أقاليم النهار و الليل"

إن تحالف "الملائكة" مع النصف المؤنث من بحور العروض ، هو عين الثورة و إعلان الرفض الحاسم ، على النسق الذهني المذكر الذي يعتمد عليه الشعر ، ومحاولة تكسير العمود الذكوري في الشعر الأقرب للفكرة الأداتية للقضيب. وقد كان للملائكة ما أرادت، وهو مايعد انتصاراً للقصيدة الحديثة يسمح لها بأن تتجدد وتتحرر وتنعتق، فكان ماسمته "الملائكة" "الشعر الحر" ، و إن كانت قد أسمته -هي نفسها- في مواضع أخرى "شعر السطر الواحد" ، وهو مايستدعي في أذهاننا تفسيراً لقلة التوجه الشعري إلى "التشطير" حتى ولو بداعي "التقسيم الموسيقي الداخلي"، لما في ذلك من إعلان هزيمة ذكورة أمام البنية الذكورية المهيمنة.
إلا أن كل تلك المسميات –"الشعر الحر" و "شعر الشطر الواحد"- وماتلاها من مسميات لنقاد آخرين – ذكوراً كانوا أم إناثاً- ليسوا إلا محض انتصارات للنسق الذكوري للشعر ، صاحب السيطرة الثقافية، إما عن تواطؤ أو عدم دراية ، فـ"كثيراً ما يكون الإسم ظالماً لمسماه ، أو ملقياً عليه ظلالاً من الشبهات وخاصة إذا كان هذا الإسم وصفاً، لأن الصفة عندئذ تستدعي نقيضها، كما يستدعي البياض ذكر السواد. وعندئذ تلتمع المقارنة ولا ينال الإسم رضا سامعيه إلا إذا اتضحت المناقضة ايما اتضاح وثبتت أشكالها و ألوانها".
إلى أن ولدت تسمية "شعر التفعيلة" ، بعد خمسة عشر عاماً على المؤنثة على إسم  يؤنثها جزءاً من حقها، ليظل الأصل المذكر و الفرع المؤنث.

"الطرق كلها هكذا: مشقات في ترجمة السوسن إلى لغة المنثور".
سليم بركات – "السيل"





*********

«فاينيموينن العجوز الأمين

كان يصنع بالغناء قارباً،

وهو يدق على صخرة،

كانت تنقصه ثلاث كلمات،

لكي يصنع جانبي القارب،

فذهب في طلب الكلمات"

من أشعار الملاحم الكاريلية القديمة في روسيا.


وإن كان البعض قد زعم أن الحداثة العربية قد انحصرت في الشعر فقط كما فعل أدونيس و إحسان عباس ، و أن لا حداثة في غيره من أنواع الخطابات الثقافية الأخرى ، فتلك نظرة تقوم على فصل الخطاب الشعري والقذف به في الفراغ مجرداً من أي إتصال مع أي نسق ثقافي وحضاري آخر للأمة ، وهو ما نراه مجانباً للصواب بقدر غير يسير، فالتأنيث في الشعر وماأحدثه ذلك في الجسد الشعري العربي من تحرر و إنطلاق ، كان الحلقة الوسطى بين محركات إبداعية ذاتية نبعت عن أكثر صور الذات العربية تعرضاً للقهر و القمع في مجتمعاتنا وصولاً لأنساق سردية و موسيقية و صوتية وبنائية جديدة ، هي تمهيد لبعث الروح التحديثية في أجناس فنية و أدبية أخرى كالرواية مثلا ، حيث الراوي أصبح خالقا لعشيرة متخيلة عبر السرد الحر ، متنقلا بشكل أرحب في وسائط سردية لايمكن إلا أن نلاحظ الفارق بين هياكلها ماقبل وما بعد حادثة تأنيث "الملائكة" للشعر، "إن تجربة القصيدة لحرة علامة كاشفة على حالة الاتصال و الانفصال، التكرار و الاختلاف، وهي مسعى لابتكار الذات نموذجها الخاص معتمدة على المنجز القائم الذي لم تسع إلى إلغائه ولكنها أقدمت على تفكيكه ففتحت بذلك منافذ لها اقتحمت عبرها أسوار النموذج مما فكك المعيار الرسمي ومكن الذات المبدعة من التغلغل إلى الداخل ومن ثم إعادة إنتاج الموروث و إعادة تكوينه".
لذا فليس من الصحيح المصادقة على أن الحداثة العربية اقتصرت فقط على الشعر، وذلك لأن التحول في البنية الشعرية وإن لم يصل لتمام التحول في البنية اللغوية المنطقية للأمة –وإن بدت مظاهره واضحة في بعض المواضع- هو تحول في أكثر الفنون اللغوية تأثراً و تأثيراً فيما يسمى بالزمنية الجامعة –بحسب بندكت أنردسن- لجماعة ما بعينها.
إذ أن ذلك التحول، ترك آثاراً عدة ، أهمها سؤال الهوية وعلاقتنا بالآخر من ناحية و البدايات من ناحية أخرى، وكذلك مواثيق إدراكنا لذاتنا تاريخيا، عبر القراءة من الطرف للمركز وليس العكس كما يذهب إلى ذلك هومي بابا، تلك القراءة التي ينبع منها الخطاب السلطوي.
"النقد و نقد الذات تحديداً ومسألة المنجز التاريخي ، مع السؤال عن دور الذات المفردة وعن موقعها في النسق الثقافي و في نظام العشيرة، وهذه أسئلة موجودة في كافة الأفعال الثقافية. ولقد كان جواب الشعر عليها هو الأبرز لأن الشعر هو أبرز ما في ثقافتنا وهو الوجه المكشوف دوماً لنا". ويسجل لحركة "الشعر الحر" أو "شعر الشطر/البيت الواحد" أو "شعر التفعيلة" أنها كانت السباقة لطرق باب "المحرم" و "الممنوع" في الذهنية الثقافية وتفكيكه ، وهو –التفكيك- المصطلح الذي يهابه الكثيرون من أصحاب عقلية الإتباع والأصولية و غيرها من الأنساق الذكورية التي تتمركز حول الذات فقط ، ولا تعطي مجالاً للآخر كما تفعل الأنوثة في أعلى تجلياتها المانحة للحياة على حافة "الفناء" ، "إستجلاءاً" و "كشفاً" للوجود الإنساني في هذا الكون.


هكذا تولد الكلماتُ . أدرِّبُ قلبي

على الحب كي يَسَعَ الورد والشوكَ ...

صوفيَّةٌ مفرداتي . وحسِّيَّةٌ رغباتي

ولستُ أنا مَنْ أنا الآن إلاَّ

إذا التقتِ الاثنتانِ :

أَنا ، وأَنا الأنثويَّةُ

م.درويش – "لاعب النرد"



Tuesday 24 July 2012

تأملات في بنيان درويشي (2): سرير الغريبة



عندما أعلن محمود درويش في سرير غريبته نيته اعتلاء البداهة الإنسانية في صورها الأكثر بدائية ، وهي أن "يحب" أياً كانت مضامين دروعه البطولية والشعرية الفلسطينية و العربية التي أُسبغت عليه حصراً و أحيانا كثيرة قيداً، حينها حُملَّ –درويش- هزائمنا وهزائم الآخرين المهدرة، وتناسى الكثيرون ، مرجعية العودة الانسانية لشؤون النفس ، و أن رفع راياتها لا يحتاج إلا "أنا"ها فقط. ولعل النص الدرويشي -هاهنا- يعلنها باديء السرير و الغرابة معاً أنهما –الشاعر و غريبته- على "ذهاب":

 "لنذهب كما نحن:
سيدة حرة
وصديقاً وفياً،
لنذهب معاً في طريقين مختلفين
لنذهب كما نحن متحدين
ومنفصلين،
ولاشيء يوجعنا
لا طلاق الحمام ولا البرد بين اليدين
ولا الريح حول الكنيسة توجعنا...
لم يكن كافياً ما تفتح من شجر اللوز
فابتسمي يزهر اللوز أكثر
بين فراشات غمازتين".

ما أن يعتلي درويش مطالع السرير، ويعلن بداهة الحب هناك وطناً، حتى يرحل عنه "حاضرنا" فيُعلن: "كان ينقصنا حاضر".  إن موقع الرائي/الشاعر من كامل ذاك النسق هو عودٌ لبطولة الإنسان في إنسانيته ، لذا كانت بطولة درويش في ظلال الفكر العربي بكامل مضامينها الفعلية و المجازية والملموسة و الرمزية و الواقعية و المتخيلة و غيرها ، هي محض "حاضر ناقص" في مواجهة الحب معركة من معارك كثيرة. وتلك طينة الأنبياء التي لا تتآلف مع حواضرها مهما إعتلى "زنارها" من بطولات، لتظل النبوءة محض بشر يتساقطون أمام بطولة الإنسان المجرد:

"فعما قليل ستنتقل الطير من زمن نحو آخر،
هل كان هذا الطريق هباءً
على شكل معنى، وسار بنا
سفراً عابراً بين اسطورتين
فلابد منه، ولابد منا
غريباً يرى نفسه في مرايا غريبته؟
"لا، ليس هذا طريقي إلى جسدي
"لا حلول ثقافية لهموم وجودية
أينما كنت كانت سمائي
حقيقةً."

تلك النبوءات التي شهدناها تحيي سرحان بشارة سرحان وهو "يشرب القهوة في الكافيتيريا" 1972، وكانت كذلك في أبياته لـ"أحمد الزعتر" 1977 ، فحررت ذلك الأخير بصهيل زعتره من فجائع قومه وأنقاضهم، وصولاً إلى "أحد عشر كوكباً على آخر المسهد الأندلسي" 1992، و التي تنبأت بالصاعقة الأخطر التي قصمت وحدة الصف الفلسطيني: إتفاقية أوسلو. تلك النبوءات التي استقرأت طريق سلام كان عليه "أن يريح الهوية الفلسطينية، و أن يريح أسئلة الثقافة الفلسطينية، و أن ينقلنا من وضعنا الأسطوري إلى وضعنا الواقعي ن و أن يدلنا على أن الواقع أغنى من النصّ. وبدأنا فعلاً بطرح أسئلة تتصل بكيفية تحولنا من نص أسطوري فيه الجلاد و الضحية ، إلى أناس عاديين، نبني حياتنا العادية، نعبر عن ضعفنا الإنساني العادي، يلتفت كل منا إلى صوته الشخصي، نشكو المرض و الكسل والضجر. لا نريد أن نكون أبطالاً ولانريد أن نكون ضحايا. بعبارة أخرى، بدأنا في البحث عن الحياة العادية، ولكن يبدو أن البحث عن حياة عادية في ظروف غيرعادية هو بحث عن بطولة أخرى"... ليظل ناقوس الرؤيا فاضحاً: "ليس صحيحاً بأن الصهيونية قد خلقت نقيضها الفلسطيني، لأن هذا النقيض موجود قبل ظهور الصهيونية نفسها، ولكنها تعرقل صيرورته إلى ثبات".

ومن هنا كانت نبوءات درويش الغزلية عبارة عن تمظهرات لجدلية العلاقة بين الهزيمة و النصر بمنطقها الإنساني، وبالتالي فهي أكثر من مجرد غرض شعري في معمار الشعر الخاص بالشاعر، إنما هو فعل مقاومة ، يحمل عبء إستحضار الجانب الإنساني من فعل المقاومة ، ذلك الجانب الأقرب للبداهة والعفوية و الحياة في سؤال المقاوم عن تمسكه بالموت من فرط ما يريد أن يحيا...حباً.
والبنية الغزلية لدى درويش سارت وتسير عكس أعراف الغزل العربي بعمومه ، وثارت وتثور على صكوك المتجانس فيه و ألفته، فكان السبق فيها لوطأة التاريخ قبل وطأة الوجدان ، وكان فيها من الغربة و النفي والغرباء  أكثر مما فيها من الإستيطان و الفيء و اللقاء:

"ليس هذا طريقي إلى أرض حريتي
ليس هذا طريقي إلى جسدي
وأنا، لن أكون "أنا" مرتين
وقد حل أمسِ محل غدي
وانقسمت إلى امرأتين
فلا أنا شرقية
ولا أنا غربية،
ولا أنا زيتونة ظللت آيتين
لنذهب، إذاً.
"لا حلول جماعية لهواجس شخصية
لم يكن كافياً أن نكون معاً
لنكون معاً...
كان ينقصنا حاضر لنرى
أين نحن. لنذهب كما نحن،
إنسانة حرة
وصديقاً قديماً
لنذهب معاً في طريقين مختلفين
لنذهب معاً،
ولنكن طيبين..."

يثور الشاعر/النبي هاهنا على مواريث إدراكنا الشعري للغزل، فلا يحقق -مثلاً- تعريف قدامة بن جعفر لقصيدة الغزل، ذلك التعريف الذي يضم بين مواثيقه صنوف الغزل وخرائطه ، ليمهد لحلول رؤى ابن حزم الأندلسي في (طوق الحمامة) إذ يقول عن الحب: "وقد علمنا أن سر التمازج والتباين في المخلوقات ، إنما هو الإتصال و الإنفصال، و الشكل دأباً يستدعي شكله، والميل إلى مثله ساكن ، و للمجانسة عملٌ محسوسٌ وتأثير مشاهدٌ، و التنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعّاد المعتدل، وسنخها المهيأ لقبول الاتفاق والميل و التوق والانحراف والشهوة و النفار".
وكيف للغزل ألا يكون مقاومة، وخلفيته "المشهد الملحمي" ، الذي يعلن الشاعر –على الدوام وفي غير موضع ومقال- إنتمائه إليه، وللغزل في الملحمة حضور التاريخ شاهداً على عقد بين الألم و الفجيعة في برهة العشق بين ثنايا الهوية وفعل الحياة:

- "لا اسم لنا يا غريبة، عند وقوع الغريب على نفسه في الغريبة"
- "من يقول لي الآن: دعك من الأمس، و احلم بكامل لاوعيك الحر"
- "كنا غريبين في بلدين بعيدين قبل قليل، فماذا أكون غداة غد عندما أصبح إثنين؟
ماذا صنعت بحريتي؟ كلما ازداد خوفي منك اندفعت إليك، ولا فضل لي يا حبيبي الغريب سوى ولعي"
- "قل إننا / طائران غريبان في أرض مصر و الشام. قل إننا طائران غريبان في ريشنا"
- "وماذا سنفعل؟ ماذا / سنفعل / من / دون / منفى؟"

يتحول النص الغزلي الدرويشي في "سرير الغريبة" من فضاء وجداني تتحدد شروطه بالعاطفة متلمسة طريقها بالمكان و الظرف إلى فضاء مقاوم يستدل بالعاطفة على "الكل الضائع" بين شظايا "الراهن الحاضر"، فتصبح الجدلية هاهنا من الوجود/العشق إلى العشق/التحرر ، مؤسساً غزليته على مقاومة "حاضر مفروض" لقاء "حاضر ناقص" بالجمالي أوليس هو القائل "الجمالي حريتك"؟ :

- "هنالك حب يسير على قدميه الحريريتين / سعيداً بغربته في الشوارع"
- "حب يمر بنا / دون أن ننتبه / فلاهو يدري ولا نحن ندري"
- "... لا أحد يستطيع
الرجوع إلى أحد. تصنع الأبدية
أشغالها اليدوية من عمرنا وتعمر... فليكن الحب ضرباً من الغيب، وليكن
الغيب ضرباً من الحب. إني عجبت
لمن يعرف الحب كيف يحب!."

ليعلن في النهاية أن تحت (سماء منخفضة) "هنالك حب"







II

ولأن "الشعر محض ثورة"، يثور شاعرنا على نبوءته ورسالته بالشعر شعراً ورؤيا، ليعود إلى بدايات الإنسان فيه وفينا –من ضمن بدايات كثيرة تميز البنيان الدرويشي في الشعر- ، فيخاطب الضلع في نفسه ، محاوراً جميل بثينة على لسانه سائلاً إياه عن مثاقيل الحب وطرائقه ومواثيقه :
"هل تشرح الحب لي، ياجميل
لأحفظه فكرة فكرة."
فيرد جميل بثينة:
"أعرف الناس بالحب أكثرهم حيرة
فاحترق، لا لتعرف نفسك
ولكن لتشعل ليل بثينة..."
وكما قالت العرب "العاشقون رفاق"، تلك الرفقة التي تصل بالعشاق إلى حدود الهند و تراثها الايروتيكي في آداب "الإنتظار"، فيرتحل العشاق ، بعد ان يعلن درويش مرآويته لجميل بثينة في "الكبر" و "الموت المنفي" و انتفاء الزمن موتاً وبثينة اسماً و نوناً:

"أعلى من الليل، طار جميل
وكسر عكازتيه . ومال على أذني
هامساً: إن رأيت بثينة في إمرأة
غيرها، فاجعل الموت ، ياصاحبي،
صاحباً، وتلألأ هنالك، في إسم
بثينة، كالنون في القافية!."

III
ومن علوم التقفي على شراشف "سرير الغريبة" ، سوسنةً سوسنةً نثراً شعرياً ، كان لابد من كسر الضرورة اللغوية المفرطة الذكورة ، و التي "ينبغي أن أنوه بأن تركيب اللغة يتطلب مني بصورة عامة، أن أكتب وأتكلم بصيغة المذكر. كما يفرض على الكاتب تذكير موضوعات لا تقبل التذكيروالتأنيث إلا عرضاً ومجازاً". ولايتأتى لنا ذلك من دون الحوار الغزلي المتكافيء على امتداد ذلك السرير مع الأنثى  على أن تكون ناصية الكلام لها. وهو ماحدث في سبع قصائد نسير على لسان ضمير المتكلمة المؤنثة ، ضمير العاشقة و ليس العاشق ، لتكشف لنا رؤى المؤنث في الغزل ، في محاولة لكسر الاستحواذ الذكوري لموضوعة الغزل، وهو في ذاته أكثر مواضيع "السرير" ثورة وتحريضاً على الحرية و الإنعتاق من أكثر قيودنا الثقافية و المعرفية و الإدراكية، باعلاء التعددية و الديموقراطية والآخروية في إدراك الذات في أكثر حالاتها ذاتية : "العشق" و "الحب" ، الذي لا يقوم من دون الآخر المكمل و ليس فقط المرادف ولا المضاد: الأنثى.
ولعل هذا الإعلاء من "غريب" التجربة الشعرية في الغزل هو ما يجعل حالة الحوار الغزلية على السرير بجدليتها تصل إلى حدود البداهة العشقية بين غريبين لا يجمعهما حاضر ، أو على الأقل مايجمعهما هو ما يجيء على لسان الأنثى/العاشقة : "لا أقل لا أكثر":
"أنا إمرأة. لا أقل ولا أكثر (...)
أنا من أنا، مثلما
أنت من أنت تسكن في
وأسكن فيك وإليك ولك
أحب الوضوح الضروري في لغزنا المشترك
أنا لك حين أفيض عن الليل
لكنني لست أرضاً
ولا سفراً
أنا إمرأة، لا أقل ولا أكثر."

فيعيد النسق الغزلي المؤنث النصر لمستحقيه، بعيدا عن تجاذبات الخطاب و السرد، "كأن تغزل الصوف لكي تلبسه لا لكي تكمل قصة هوميروس، أو تحن إلى سوسن آخر غير ذاك الذي خلف جبال مؤاب، أوتطلب منه أن يحك ظهرها  ويفك على مهل جدائل شعرها ، أو تقتبس يانيس ريتوس فترى" في عروق الرخام حليب الكلام الإباحي يجري ويصرخ بالشعراء اكتبوني" أو تهتف ببساطة: ياليتني لم أحبك.."





IV
كل شيء في "سرير الغريبة" يصدح بالموسيقى ويطوقه الإيقاع، صاعدة من ستة سونتات ، تتخلل الجسد السريري الشعري، فينثرها الشاعر بلاعنوان إلا من رقم ، لنقوم بأدوار بعينها:

1. دور  وظيفي فاصل واصل بين قسم و آخر لضمان سيولة موسيقية وتناغم جغرافيا الإيقاع.
2.خلق الفضاء الموسيقي الملحمي لبداهة "وقوع الغريب على نفسه في الغريب"، تحت وطأة التاريخ من سردية الفرد/الانسان.
فيلتزم الشاعر بالشرط العضوي للسوناتا في الشعر الغربي ، وهي أن تكون مكونة من أربعة عشر بيتاً (وفي بعض الأدبيات الشعرية "سطراً") شعرياً، مراوحاً في توزيعه لسطوره الشعرية بين تمثلات السوناتا في أنسابها بين بترارك وسبنسر وشكسبير.

السوناتا في هيكلها المقسم إلى مقطع ثماني Octave يطرح وضعية ذات توتر وشحنة عالية عاطفياً،  ومقطع سداسي Sestet يعمل على تخفيف الشحنة السابقة عليه ومعادلة توترها العالي ، هي مرآة لذلك المخطط الحسابي لأفلاطون الذي يقرأ العلاقة الهندسية بين "النفس" و "الكون"، وكان أوائل مبتكري السونيتات قد حاولوا محاكاة تلك الهندسة عن طريق تتبع خطى "الأنغام غير المسموعة" من "موسيقى الروح الإنسانية" كما يصفها الناقد جون كيتس. ونرى الكثير من الصحة فيما ذهب إليه بعض النقاد من حدود المحاججة أن ابتكار شكل السونيت كان إيذاناً بفجر الفكر و الأدب الحديثين ، باعتبار السونيت هي أول الأشكال الغنائية التي تخاطب "الوعي الذاتي" أو تتناول "الذات في حالة صراع".
ولعل قراءة تاريخ السونيت كصورة شعرية تعبيرية ، تحيلنا إلى النسق الفكري المميز للمرحلة التاريخية التي شهدت ولادة السونيت، على مطالع القرن الـ13 في إيطاليا حيث كان اضمحلال الامبراطورية الرومانية مفسحاً المجال أمام نقاشين حاسمين في الوعي حينها:

1.التنازل عن نموذج الإله البطل لصالح الإنسان العادي.
2.التنازل عن السلوك البطولي التطهيري القدري لصالح السلوك الفردي الوجداني العاطفي ، و الإنتقال من النشيد الوجداني إلى قصيدة الحب.

ولكن مالداعلي لطرق الشاعر باب ذلك الصنف الغربي (؟!!) من الشعر؟

فنار السونيت التي انتشرت في هشيم الكثير من الثقافات الانسانية قافزة فوق عديد التفاصيل للزمان و المكان ، من غوته وريكله في ألمانيا ، إلى بودليير وفرلين ورامبو في فرنسا، إلى غارسيا لوركا وأنتونيو فيريرا في إسبانيا ، تعود بشرارتها الأولى باجماع المصادر الأدبية أن أول من نظم ذلك الشكل الشعري كان جياكومو دي لنتينو (1188 – 1240) ، من غير اعتماد على ترانيم ومواثيق غنائية محايثة له (أشعار التروبادور و البروفنسيال)، بل طور شكلاً غنائياً مقتبساً من فلاحي صقلية وموسيقاهم المكانية ذات العلاقة الوثيقة الصلة بالحيزالمكاني من حيث بعده عن سلطة الدولة و أمكنتها الجمعية الممأسسة إلى فضاء الريف الحر ، حيث الزمن الأكثر رخاوة وبطأً، وهو ذلك الفن الذي يدين في أصله إلى شعر الغزل العربي الأندلسي و موشحاته ، وقد تناقله العرب المقيمون في صقلية ، ثم كان من واجل من أتى بعده أن يكمل المشوار : دانتي لأليغييري وفرانسيكو بترارك، وصولا إلى شكسبير وجون ملتون وسبنسر.
لذا فـ"سرير الغريبة" في سونتاته هو استرداد لبضاعة عربية ثمينة ضلت طريقها ضمن الكثير مما ضل طريقه منا إلينا، فأكلمت طريقاً حراً من مواريث الهوان و الغربة و الاستلاب في إرث غرناطة ، إلى فضاء أكمل و أكثر غنىً و فتنةً.
وحتى مع ذلك ، فإن شاعرنا هاهنا لا يقوم بنسخ بنيوي ميكانيكي للسونتات ، وإلا فهو لا يجدد في استخدام فضاء السوناتا لاحتواء جدلية "المعنى" و "الدلالة" ، إنما هو يوظف تجديداً موسيقياً لايخفى على ذائقة المتخصص و المتذوق ظله الموسيقي في جسد البنية الشعرية الدرويشية كاملة ، إذ أن التجديد الموسيقي في السوناتا الدرويشية لا يكون ضمن لمسة الشاعر التركيبية المجددة في السوناتا ، من دون الإخلال بعضوية تعريف السوناتا من حيث أبياتها الأربعة عشر، ولكن بالتحديث و التجديد في شرط عضوي آخر للسوناتا وهو "إنهاء السطر الشعري بقافية منضوية في التصميم الثابت لهندسة القافية للسوناتا".
فبينما أسقط درويش القافية في سوناتاته الأولى، حيث كاد أن "يبعثر روحية الهندسة بأسرها" ، عوض ذلك بتواتر "الأصوات الواحدة" أو التقفية الثنائية. أما في السوناتا الثالثة فقد اعتمد بنية تقفية مختلفة ، وإن كانت متسقة صوتياً وحرفياً في هندستها . وهكذا يداعب الشاعر البنية الموسيقية و التركيبية للسوناتا فيعيد موضعتها بشكل مميز مؤكدا على القاعدة النقدية التي تقول أن الشعر محض ثورة:

"حريركما ساخن، وعلى الناي أن يتأنى قليلا
ويصقل سوناتة، عندما تقعان علي غموضا جميلا
كمعنى على أهبة العري، لا يستطيع الوصولا
ولا الانتظار الطويل أمام الكلام، فيختارني عتبة
أحب من الشعر عفوية النثر و الصورة الحافية
بلا قمر للبلاغة: حين تسيرين حافية تترك القافية
جماع الكلام، وينكسر الوزن في ذروة التجربة"
معيداً للعروض في الشعر و اللغة و الإدراك أبهتها  وثرائها في عصر يكاد يكون الفكر العربي أقرب ما يكون للإدراك المادي للفن في صورته المادية الاستهلاكية.

V

يرى غير قليل من النقاد ان انتقال بعض الآداب "من مرحلة السمعية إلى مرحلة البصرية –مثل الشعر العربي- له أثره البالغ في تكييف بنيته، إذ أن الانشاد كان يجعل القيم الموسيقية في الشعر القديم هي الحاسمة في تحديد قيمته، أما القراءة التي تجعله كتابياً  فهي تبرز في تكوينه عناصر تشكيلية مكانية مختلفة عن العنصر الزمني الأول نسبياً "، في إشارة للتأثير التخيلي للأداب ودلالتها بين الموقفية و التجريد.
وقد يصح ذلك على ما يمتد إليه ظله في الكثير من – مايمكننا تسميته- شعر الحداثة، ولكن للمعمار الدرويشي هيكل موسيقي شفاهي يأبى طاعة ذلك الظل ، معيدا التذكرة بأن المعاصر يمكن أن يقارب الماضوي في موسيقية الشفاهى، من حيث "أن الثقافات الشفاهية الخالصة يمكن أن تولد أشكالا فنية للقول ذات حذق ومهارة"، تلك الموسيقى الشفاهية التي أسست لها أول ما أسست النصوص اللاهوتية و الدينية ، التي اعتمدت "الاعجاز" و "الابهام" و "الموسيقى" و "الإيقاع" كعوامل "تكثيف" و"تفكيك" ، لإحداث التأثير المناسب في المتلقي ،العقل الباطن و الإدراك.
فمثلا ماضمن للأوديسا والالياذة وهما البنيتان الشعريتان الموسيقيتان في الأدب الغربي الأهم –من الأهم- هو ما وصفه جان جاك روسو مستشهدا برموز لاهوتية أن "هوميروس ومعاصريه من الاغريق كانوا في أغلب الظن لايعرفون الكتابة" وذلك فيما عرف بـ"المسألة الهومرية" في الأدب، والتي انبثقت في حد ذاتها في القرن التاسع عشر من النقد الهومري الذي تزامن نضجه مع النقد العالي للكتاب المقدس. ففي "الثقافات الشفاهية الأولية، حيث لاوجود للكلمة إلا في الصوت، دون إشارة من أي نوع إلى أي نص يدرك إدراكاً بصرياً، بل دون وعي بإمكان وجوده، تدخل ظاهراتية النغمة/الصوت ومن ثم الموسيقى إلى شعور الكائنات البشرية بالوجود ، كما تنتجه الكلمة المنطوقة" كذلك تؤثر في "حس الانسان بالكون ، و الكون بالنسبة للثقافات الشفاهية (كالشعر) حدث مستمر يقع الانسان في المركز منه. فالانسان سره العالم ، ولم يحدث أن أخذ البشر عندما كانوا يفكرون بالكون أو الدنيا أو العالم في التفكير أساساً في شيء مبسوط أمام عيونهم كما في الأطالس الحديثة (المكتوبة و المُبصرة)" فالفكر و الوعي والتعبير "القائمين على الشفاهية، يرتبطون ارتباطاً حميماً بالنظام الصوتي الذي يدركه البشر (بمجموعاتهم) ، وهو نظام يفضي إلى الاتجاه نحو المركز ونحو الداخل (...) متفقاً مع الميول التجميعية –المساعدة على الائتلاف- أكثر من الميول التحليلية التجزيئية"، وهو ماينطبق –بنظرنا- على المعمار الصوتي و الموسيقي لشعر محمود درويش.
فدرويش لدى تحليل سرير غريبته الشعري موسيقيا وصوتيا –وهو ما نراه ينطبق في الكثير من مواضع البنيان الدرويشي الشعري- نراه يختارتفاعيل البحر المتقارب وحدها وحدة دنيا وعليا ، كما اختار تفاعيل المتقارب اللينة الخافتة الجرس وسيطاً بين أوزان موسيقية ونثرية، خالقا ما اسماه بعض النقاد "التفعيلة المنثورة" و/أو "النثر التفعيلي".
لعل ذلك الفعل الثوري شعريا هو الذي دفع بدرويش للاشتغال على شؤون التقفية وتصانيفها وترانيمها وموسيقاها في "سرير الغريبة" ، وما لتلك الغربة من دلالات ودوافع ، دونما اخلال بدور التقفية التشكيلي في الموسيقى و المعنى ، فهو يقترح في ديوانه – "سرير الغريبة" فقط – ست صيغ مختلفة من التقفية الشعرية ، تراوحت – من دون ذكرها تفصيلياً بما يدفع القاريء للملل بدافع الإفراط في التخصص أو لضيق المتن الحالي – بين "التقفية المتباعدة" و "المقطعية" و "المتناوبة" و "الخفية" و "المفتوحة" و "استخدام مفردة واحدة لتوؤدي وظائف إيقاعية في التكرار وتلعب دور القافية ايضاً".





VI

يختم درويش مطالع "سرير الغريبة" – غريبته وغريبتنا وغربتنا- برائعته "طوق الحمامة الدمشقي"، و التي يستحضر فيها بعداً ثالثاً للزمان و المكان الدمشقيين ، فيحيل به دمشقاً حمامة غواية وتأمل ، تلك هي اللغة حرفاً حرفاً ، تاركاً لها وحدها عبء تأويل "الغربة" التي تجتاح الديوان ، محققاً مقولة هايدجر "عملية الفهم دائرية لا محالة" وغدامر إذ يقول: "نحن لايمكن أن نفهم إلا غذا كنا نريد أن نفهم ، أي لا يمكن أن نفهم دون أن نتيح لشيء ما أن يقال" أي أن يكون ، و الكينونة الإدراكية الأولى للأشياء هي الشعر و الموسيقى، لذا فإن كانت "كتابة القصيدة قراءة للعالم ، فإن قراءة هذه القصيدة هي كتابة للعالم".


إليك أرحنا عازب الشعر بعدما      تمهل في روض المعاني العجائب
غرائب لاقت في فنائك أنسها     من المجد، فهي الآن غير غرائب
أبو تمام